لم تعد لي القدرة على مواصلة الصّمت و أنا أرى حال بلادي من سيّء إلى أسوأ. لم تعد لي القدرة على العمل في صمتي و في نطاق ضيّق معتبرة أن الديمقراطيّة و الفكر الحرّ ينبني لبنة لبنة حتّى يشتدّ فيتحوّل إلى بناء صلب يستوعبه الفكر فيتحوّل إلى جزء لا يتجزّأ من الذات اثر التشرّب من كلّ مقوّماته. الأرض تنهار و تضيع فعن أيّ بناء أتحدث و أي تفاؤل في المستقبل يمكن أن انتظر أو أتصوّر؟
ككل التّونسيّين أتابع ما يحدث في البلاد، غضب و ثورة و حكومات، إضرابات و اعتصامات تخلّلتها انتخابات.و رغم كلّ ما كان يحفّ بالبلاد من خور و تراجع و انتهاكات، كانت لنا بعض المكاسب و المكتسبات و من بينها أساسا دولة عصرية متفتّحة تحظى بسمعة طيّبة و احترام، دولة رغم صغر مساحتها و افتقارها للموارد استطاعت أن تعوّل على رأسمالها البشري فأبهرت العالم في عدّة مناسبات
اليوم، كل هذا سائر للزوال. وكم آلمتني كلمة أصبحت تتردد على لسان بعض إطاراتنا بالخارج، منذ سنة مضت كانوا يفتخرون بكونهم تونسيّين و يفكّرون جدّيّا بالعودة للديار متخلين عن كلّ الامتيازات، أما اليوم فأصبحوا يخجلون من هذا الانتساب، و أكثر من ذلك يفكّرون في ترحيل الأهل والأحباب، فلم يعد على هذه الأرض ما يدعوهم للاستقرار
اليوم تنتابني حيرة و أظن أني لست الوحيدة في هذا الوضع. بعيدا عن لغة الشّعارات، و مبدأ الحريّة وعدم الإقصاء، لم أتصور يوما أن البلاد ستمزقها الانقسامات. بدأت بالفوارق بين السّاحل و المناطق الدّاخليّة و هذا يصبح مقبولا إذا نظرنا للمسألة من نطاق التهميش و قلّة الاعتمادات. أمّا ما لا يمكن ان اقبله هو هذا الانقسام بين مسلم و كافر و كانّ هذا الشّعب لم يحمل راية الإسلام منذ أكثر من ألفية بل و كان منبرا للبحث و نشر الدّين في المغرب و غيره دون القذف و تلفيق الاتّهامات و دون أن يتحوّل يوما إلي مستورد لفكر او لباس لا يمتّ لنا بصلة، أشكال كنت لا أراها إلا في الأنباء المصوّرة من أفغانستان اصبحت تكتسح الشّوارع و الكليّات. فهل في هذا المثال الملوّث بالدماء ما يشرّفنا الاقتداء به؟
ففي بلدي، و منذ زمن ليس بالبعيد، حتّى من حاد عن طريق "الصّواب" كان يدعى له بالهداية و الصّلاح و لم يكفّره يوما أي إنسان مثلما يحصل الآن. و الأكثر من ذلك، أصبحت التفرقة منوالا و ذلك بإحياء انقسامات قديمة متجدّدة بين يوسفيّة و بورقيبيّة و كأن تلك هي قضيّة السّاعة و فضّ هذا النزاع سيصلح حال البلاد. و لا اصدّق بعفويّة هذه الأوضاع
لا اشكك في أن من التفّوا على السّلطة الآن وصلوا إليها عبر مكاتب الاقتراع، مستغلين الدّين أحسن استغلال و كأنّ سنوات السّجن و الإبعاد أو النفي الإرادي في أحضان الغرب و قصورهم تعطيهم شرعيّة التحكّم في رؤوس العباد. و إن كان الأمر كذلك، لأصبح للصهاينة شرعيّة الوجود... كما لا يمكنني أن أضع يدي في يد من يتاجر بمعتقدات العباد و يده ملطخة بالعنف و التّطرّف مع اعتراف صريح بذلك، كما لا يمكنني أن اصدّق متشدّد الأمس حتّى و إن اظهر اعتداله فلم أر يوما سجينا علّمته سنوات السجن أن يصبح أكثر تسامحا أو انفتاحا أو اعتدالا. كما لا يمكّن النضال من اجل مبدأ أو إيديولوجيا أو حق من إكتساب آليّات تسيير البلاد، و هذا ما لا يستطيع أن ينكره احد والواقع اشدّ دليل على ذلك. فلا حكومة أثبتت جدواها إذ أن تاريخها الجهادي، عفوا النضالي، لم يخول لها اكتساب آليّات تسيير هذا الوطن إلى برّ الأمان أو دعم اللّحمة بين مكوناته في إطار توافق وطني أو فهم خصوصيّة المجتمع التّونسي بكلّ توجهاته، إذ لم تزد هذه الحكومة الزرقاويّة المنهج رغم تنوّع تدرّجاته إلا عنق الزجاجة اختناقا عمّا كانت عليه .و لن أتحدث حتّى عن ذلك الحقوقيّ الذي و إن كان محترما نسبيا حيث كان فاعلا في مجال حقوق الإنسان و الذّي اليوم لا يستطيع حتّى ملء الكرسيّ الذّي باع كل شيء من اجل الحصول عليه
أمام هذه اللاّ ثقة، و هو موقف شخصيّ من حقّ كلّ شخص مخالفتي فيه و لكن من واجبه احترامه، لم أجد في الطرف المقابل اي قوة يمكنها أن تعدّل الكفّة بالحفاظ على خصوصية المجتمع التّونسي الذّي لم يكن فحسب وليد السّياسة البورقيبيّة التي أرى فيها جوانب اجتماعيّة جدّ ايجابيّة رغم بعض الأخطاء في التصوّرات السّياسيّة التّي لا تنفي عن الرّجل وطنيّته التي لا يمكن أن يشكّك فيها احد و إنما كانت أيضا وليدة تاريخ كامل بكلّ أطواره و حقباته و التّي جعلت الحضارة التونسيّة متميّزة عن غيرها
بلادي التي عشقتها و لا زلت هي بلاد عليّسة و الكاهنة و الجازية الهلاليّة ، هي بلاد علاّمة مثل ابن خلدون و محمّد الطّاهر بن عاشور الذين يجرؤ بعض الجهلة اليوم على التشكيك في مكانتهم متّبعين خطى من لا يدرك من سنن الرسول إلا إطالة اللحية و لبس الاقمصة الصّينيّة الصنع منتعلين أحذية يموّلها الرأسمال الصّهيوني ليصيحوا في المنابر مكفرين ذاك، محلّين سفك دم الآخر، باثين الفتنة في شعب لم تفرّق يوما أوصاله لا دين و لا ملّة و بقيّة القطيع تصيح "تكبيير" كأنهم جاؤوا إلى بلاد الكفّار فاتحين، و للغنائم و السّبايا مترصّدين
لم الحيرة اذا و موقفي من هؤلاء باتّ، نهائيّ و لا رجعة فيه؟
حيرتي متأتية من خوفي على بلدي، على شعب يسير نحو حمّام دم بخطى سريعة و لا احد يحرّك ساكنا. خوفي من الفتنة تحاك بأيادي لا أدرك جليّا مأتاها لكنها تصدّع صروخا و توسّع شروخا لملمتها الأيام. خوفي من الظّلام الذّي ينشر أعلامه السّوداء هنا و هناك. خوفي على حرّيّتي و مكاسبي و مستقبل ابنتي التّي لا أريدها أن تتحوّل إلى شبح اسود اثر عمليّة غسل دماغ لترى في نفسها مجرّد متعة آو مصدر فتنة يجب حجبه عن العيان، فإهانة الذّات و تحقيرها لا تندرج في إطار الحرّيات
أمام هذا الخوف تتأتى حيرتي. حيرتي حول موقف أرى نفسي ملزمة على اتخاذه تجاه كتلة وسطيّة بدأت تبرز و تظهر و تأخذ حيّزا من المشهد السّياسي في البلاد. و ما أحوجنا إلى مثل هذه المبادرات التّي تضمن التوازن و تمثّل قوّة ضغط في مجابهة الديكتاتورية الحزبية العائلية الجديدة، و ذلك بارز في توزيع الحقائب الوزاريّة و اليوم في تعيين الولاّة حسب الولاءات، فما أشبه ازرق اليوم ببنفسجيّ الأمس
كنت من الحاضرين يوم 24 مارس بالمنستير، فانا بورقيبيّة و أومن بما قدّمه الرجل للبلاد و إن كان معاصروه لقّبوه بالزعيم فلست أنا من سألغي مكانته طيلة حوالي القرن من تاريخ تونس من خلال الحركة الوطنيّة إلى إرساء و بناء الدّولة الحديثة إلى جانب ثلّة من الرجالات ممّن شاطروه الرّؤى أو خالفوه دون ان أألّه الرّجل أو أنزّهه من كلّ الأخطاء. فهي خيارات تحسب له في التّعليم و الصحّة و مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّي لم تكن مجلّة نسويّة و إنما هي تنظيم عصريّ للأسرة و للمجتمع يضمن لكن طرف ما له و ما عليه
كان الاجتماع من تنظيم جمعية الفكر البورقيبي تحت شعار نداء الوطن. حضر فيه ممثّلون عن أكثر من خمسين حزبا و منظّمة و جمعيّة كلّها ذات توجهات حداثيّة وسطيّة. كان ذلك على شرف رئيس الحكومة السّابقة السيّد الباجي قائد السّبسي الذي يحظى بشعبيّة كبيرة و ثقة من عديد التّونسيّين و ليس كلّهم طبعا. كان الشّعار المرفوع هو نجدة الوطن من الهوّة التّي يشارف على السّقوط فيها و بناء كتلة يمكنها أن تخوض الحملة الانتخابيّة القادمة دون إضاعة أكثر من مليون صوت على قائمات دخلت الإنتخابات وهي على يقين أنها لن تتحصّل على مقعد واحد، و لو كانت قد تجمّعت في قائمة موحّدة لكانت من ذوي الأغلبية و هكذا استفادت مختلف هذه القوى من التّجارب السّابقة و من الهفوات و هي تسعى بذلك إلى تجاوزها. و كم كنت أتمنى أن تدرك قوى اليسار ذلك و تعمل هي الأخرى على لمّ صفوفها مغيّرة خطابها النخبويّ الذّي اثبت انّه لا يوصل إلى النّتيجة المرجوّة
الإجتماع بتنظيمه المتقن من جميع النّواحي كان يمكن أن ينظر إليه كقارب نجاة يحمل في جوانبه كلّ التّوجهات التّي رأت في مصلحة الوطن أولوية بعيدا عن الحسابات الحزبيّة الضّيّقة. لكنّ ذلك لم يمنع حيرتي
و جود شخصيّات تجمّعيّة لعبت دورا رياديّا في العهد السّابق و دافعت عن توجهاته و خياراته جعلتني انظر للمسألة بتحفّظ شديد. اعتبار هذا الإجتماع فرصة ذهبيّة لعودة التّجمّعيّين القدامى من الباب الكبير بكلّ ما يحمله التّجمّع من قذارة سياسيّة لم يكن ليخفّف وطأة شكوكي و تحفّظي، لكن أو ليست السّياسة لعبة لا يمكن ان تلعب بدون قذارات؟

ككل التّونسيّين أتابع ما يحدث في البلاد، غضب و ثورة و حكومات، إضرابات و اعتصامات تخلّلتها انتخابات.و رغم كلّ ما كان يحفّ بالبلاد من خور و تراجع و انتهاكات، كانت لنا بعض المكاسب و المكتسبات و من بينها أساسا دولة عصرية متفتّحة تحظى بسمعة طيّبة و احترام، دولة رغم صغر مساحتها و افتقارها للموارد استطاعت أن تعوّل على رأسمالها البشري فأبهرت العالم في عدّة مناسبات
اليوم، كل هذا سائر للزوال. وكم آلمتني كلمة أصبحت تتردد على لسان بعض إطاراتنا بالخارج، منذ سنة مضت كانوا يفتخرون بكونهم تونسيّين و يفكّرون جدّيّا بالعودة للديار متخلين عن كلّ الامتيازات، أما اليوم فأصبحوا يخجلون من هذا الانتساب، و أكثر من ذلك يفكّرون في ترحيل الأهل والأحباب، فلم يعد على هذه الأرض ما يدعوهم للاستقرار
اليوم تنتابني حيرة و أظن أني لست الوحيدة في هذا الوضع. بعيدا عن لغة الشّعارات، و مبدأ الحريّة وعدم الإقصاء، لم أتصور يوما أن البلاد ستمزقها الانقسامات. بدأت بالفوارق بين السّاحل و المناطق الدّاخليّة و هذا يصبح مقبولا إذا نظرنا للمسألة من نطاق التهميش و قلّة الاعتمادات. أمّا ما لا يمكن ان اقبله هو هذا الانقسام بين مسلم و كافر و كانّ هذا الشّعب لم يحمل راية الإسلام منذ أكثر من ألفية بل و كان منبرا للبحث و نشر الدّين في المغرب و غيره دون القذف و تلفيق الاتّهامات و دون أن يتحوّل يوما إلي مستورد لفكر او لباس لا يمتّ لنا بصلة، أشكال كنت لا أراها إلا في الأنباء المصوّرة من أفغانستان اصبحت تكتسح الشّوارع و الكليّات. فهل في هذا المثال الملوّث بالدماء ما يشرّفنا الاقتداء به؟
ففي بلدي، و منذ زمن ليس بالبعيد، حتّى من حاد عن طريق "الصّواب" كان يدعى له بالهداية و الصّلاح و لم يكفّره يوما أي إنسان مثلما يحصل الآن. و الأكثر من ذلك، أصبحت التفرقة منوالا و ذلك بإحياء انقسامات قديمة متجدّدة بين يوسفيّة و بورقيبيّة و كأن تلك هي قضيّة السّاعة و فضّ هذا النزاع سيصلح حال البلاد. و لا اصدّق بعفويّة هذه الأوضاع
لا اشكك في أن من التفّوا على السّلطة الآن وصلوا إليها عبر مكاتب الاقتراع، مستغلين الدّين أحسن استغلال و كأنّ سنوات السّجن و الإبعاد أو النفي الإرادي في أحضان الغرب و قصورهم تعطيهم شرعيّة التحكّم في رؤوس العباد. و إن كان الأمر كذلك، لأصبح للصهاينة شرعيّة الوجود... كما لا يمكنني أن أضع يدي في يد من يتاجر بمعتقدات العباد و يده ملطخة بالعنف و التّطرّف مع اعتراف صريح بذلك، كما لا يمكنني أن اصدّق متشدّد الأمس حتّى و إن اظهر اعتداله فلم أر يوما سجينا علّمته سنوات السجن أن يصبح أكثر تسامحا أو انفتاحا أو اعتدالا. كما لا يمكّن النضال من اجل مبدأ أو إيديولوجيا أو حق من إكتساب آليّات تسيير البلاد، و هذا ما لا يستطيع أن ينكره احد والواقع اشدّ دليل على ذلك. فلا حكومة أثبتت جدواها إذ أن تاريخها الجهادي، عفوا النضالي، لم يخول لها اكتساب آليّات تسيير هذا الوطن إلى برّ الأمان أو دعم اللّحمة بين مكوناته في إطار توافق وطني أو فهم خصوصيّة المجتمع التّونسي بكلّ توجهاته، إذ لم تزد هذه الحكومة الزرقاويّة المنهج رغم تنوّع تدرّجاته إلا عنق الزجاجة اختناقا عمّا كانت عليه .و لن أتحدث حتّى عن ذلك الحقوقيّ الذي و إن كان محترما نسبيا حيث كان فاعلا في مجال حقوق الإنسان و الذّي اليوم لا يستطيع حتّى ملء الكرسيّ الذّي باع كل شيء من اجل الحصول عليه
أمام هذه اللاّ ثقة، و هو موقف شخصيّ من حقّ كلّ شخص مخالفتي فيه و لكن من واجبه احترامه، لم أجد في الطرف المقابل اي قوة يمكنها أن تعدّل الكفّة بالحفاظ على خصوصية المجتمع التّونسي الذّي لم يكن فحسب وليد السّياسة البورقيبيّة التي أرى فيها جوانب اجتماعيّة جدّ ايجابيّة رغم بعض الأخطاء في التصوّرات السّياسيّة التّي لا تنفي عن الرّجل وطنيّته التي لا يمكن أن يشكّك فيها احد و إنما كانت أيضا وليدة تاريخ كامل بكلّ أطواره و حقباته و التّي جعلت الحضارة التونسيّة متميّزة عن غيرها
بلادي التي عشقتها و لا زلت هي بلاد عليّسة و الكاهنة و الجازية الهلاليّة ، هي بلاد علاّمة مثل ابن خلدون و محمّد الطّاهر بن عاشور الذين يجرؤ بعض الجهلة اليوم على التشكيك في مكانتهم متّبعين خطى من لا يدرك من سنن الرسول إلا إطالة اللحية و لبس الاقمصة الصّينيّة الصنع منتعلين أحذية يموّلها الرأسمال الصّهيوني ليصيحوا في المنابر مكفرين ذاك، محلّين سفك دم الآخر، باثين الفتنة في شعب لم تفرّق يوما أوصاله لا دين و لا ملّة و بقيّة القطيع تصيح "تكبيير" كأنهم جاؤوا إلى بلاد الكفّار فاتحين، و للغنائم و السّبايا مترصّدين
لم الحيرة اذا و موقفي من هؤلاء باتّ، نهائيّ و لا رجعة فيه؟
حيرتي متأتية من خوفي على بلدي، على شعب يسير نحو حمّام دم بخطى سريعة و لا احد يحرّك ساكنا. خوفي من الفتنة تحاك بأيادي لا أدرك جليّا مأتاها لكنها تصدّع صروخا و توسّع شروخا لملمتها الأيام. خوفي من الظّلام الذّي ينشر أعلامه السّوداء هنا و هناك. خوفي على حرّيّتي و مكاسبي و مستقبل ابنتي التّي لا أريدها أن تتحوّل إلى شبح اسود اثر عمليّة غسل دماغ لترى في نفسها مجرّد متعة آو مصدر فتنة يجب حجبه عن العيان، فإهانة الذّات و تحقيرها لا تندرج في إطار الحرّيات
أمام هذا الخوف تتأتى حيرتي. حيرتي حول موقف أرى نفسي ملزمة على اتخاذه تجاه كتلة وسطيّة بدأت تبرز و تظهر و تأخذ حيّزا من المشهد السّياسي في البلاد. و ما أحوجنا إلى مثل هذه المبادرات التّي تضمن التوازن و تمثّل قوّة ضغط في مجابهة الديكتاتورية الحزبية العائلية الجديدة، و ذلك بارز في توزيع الحقائب الوزاريّة و اليوم في تعيين الولاّة حسب الولاءات، فما أشبه ازرق اليوم ببنفسجيّ الأمس
كنت من الحاضرين يوم 24 مارس بالمنستير، فانا بورقيبيّة و أومن بما قدّمه الرجل للبلاد و إن كان معاصروه لقّبوه بالزعيم فلست أنا من سألغي مكانته طيلة حوالي القرن من تاريخ تونس من خلال الحركة الوطنيّة إلى إرساء و بناء الدّولة الحديثة إلى جانب ثلّة من الرجالات ممّن شاطروه الرّؤى أو خالفوه دون ان أألّه الرّجل أو أنزّهه من كلّ الأخطاء. فهي خيارات تحسب له في التّعليم و الصحّة و مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّي لم تكن مجلّة نسويّة و إنما هي تنظيم عصريّ للأسرة و للمجتمع يضمن لكن طرف ما له و ما عليه
كان الاجتماع من تنظيم جمعية الفكر البورقيبي تحت شعار نداء الوطن. حضر فيه ممثّلون عن أكثر من خمسين حزبا و منظّمة و جمعيّة كلّها ذات توجهات حداثيّة وسطيّة. كان ذلك على شرف رئيس الحكومة السّابقة السيّد الباجي قائد السّبسي الذي يحظى بشعبيّة كبيرة و ثقة من عديد التّونسيّين و ليس كلّهم طبعا. كان الشّعار المرفوع هو نجدة الوطن من الهوّة التّي يشارف على السّقوط فيها و بناء كتلة يمكنها أن تخوض الحملة الانتخابيّة القادمة دون إضاعة أكثر من مليون صوت على قائمات دخلت الإنتخابات وهي على يقين أنها لن تتحصّل على مقعد واحد، و لو كانت قد تجمّعت في قائمة موحّدة لكانت من ذوي الأغلبية و هكذا استفادت مختلف هذه القوى من التّجارب السّابقة و من الهفوات و هي تسعى بذلك إلى تجاوزها. و كم كنت أتمنى أن تدرك قوى اليسار ذلك و تعمل هي الأخرى على لمّ صفوفها مغيّرة خطابها النخبويّ الذّي اثبت انّه لا يوصل إلى النّتيجة المرجوّة
الإجتماع بتنظيمه المتقن من جميع النّواحي كان يمكن أن ينظر إليه كقارب نجاة يحمل في جوانبه كلّ التّوجهات التّي رأت في مصلحة الوطن أولوية بعيدا عن الحسابات الحزبيّة الضّيّقة. لكنّ ذلك لم يمنع حيرتي
و جود شخصيّات تجمّعيّة لعبت دورا رياديّا في العهد السّابق و دافعت عن توجهاته و خياراته جعلتني انظر للمسألة بتحفّظ شديد. اعتبار هذا الإجتماع فرصة ذهبيّة لعودة التّجمّعيّين القدامى من الباب الكبير بكلّ ما يحمله التّجمّع من قذارة سياسيّة لم يكن ليخفّف وطأة شكوكي و تحفّظي، لكن أو ليست السّياسة لعبة لا يمكن ان تلعب بدون قذارات؟
لكنّ بعض الوجوه الأخرى، التّي كانت بالأمس في صفوف المعارضة آو مشهود لها باستقلاليتها و وطنيّتها دون أي مجال للشكّ وضعت يدها في أيديهم مؤمنة بأنّ المرحلة تستوجب ذلك للخروج بالبلاد من الخندق الذي توشك أن تقع فيه دون أمل في النهوض
هذه بعض أسباب حيرتي، و هي أساسا مشكلة ثقة لم تستطع أن تكون كاملة حتّى يكون موقفي نهائيّا دون تذبذب او حيرة فلا مجال اليوم لمزيد الانتظار، الوضع حرج و لا بد من الإختيار، لكن هل هناك فعلا مجال للإنتظار او للاختيار؟